مرفق القضاء استتبع وجود عدة مبادئ لضمان عدم تغول السلطات على حقوق الأفراد وضمان الشرعية والعدالة ، ومن هذه المبادئ مبدأ شرعية العقوبات والجرائم بمعنى أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص يحدد الفعل الذي يعتبر جريمة في نظر القانون ، والعقوبات المقررة على مرتكب هذا الفعل ، وقد حرصت كل الدساتير على النص هذا المبدا .
أي أن يكون القانون هو مصدر الصفة غير المشروعة للفعل ويشمل قانون العقوبات والقوانين المكملة له والقوانين الجزائية الخاصة ، وكذلك العقوبة المقررة لهذا الفعل .
والحكمة من هذا المبدأ هي أن تكون الأفعال التي تشكل جريمة معروفة للكافة ومنصوص عليها في القانوني بحيث لا يجوز العقاب على أي فعل مهما كان طالما لم يرد النص بأن هذا الفعل يشكل جريمة ، وكذلك العقوبات المقررة لكل فعل ، بحيث لا يجوز للقاضي أن يعتبر فعلاً معنياً جريمة إلا إذا وجد نصاً يجرم هذا الفعل فإذا لم يجد مثل هذا النص فلا سبيل إلى اعتبار الفعل جريمة ولو اقتنع بأنه مناقض للعدالة أو الأخلاق أو الدين .
وكذلك لا يجوز للقاضي إلا توقيع العقاب المنصوص عليه في القانون ، وذلك كله مع مراعاة الظروف المخففة والظروف المشددة التي ينص عليها القانون أيضا .
وما سبق بيانه يستتبع أن يكون القانون معروفا لدى الجميع حتى يطالبوا بالإمتثال إليه وتجنب الأفعال التي تعتبر جريمة حتى يطبق عليهم ، ولذا فإنه يجب نشر جميع القوانين فور صدورها في الجريدة الرسمية وينص في القانون على تاريخ سريانه .
وإذا صدر القانون وتم نشره وحل تاريخ سريانه فإنه يطبق على جميع الخاضعين لأحكامه دون استثناء ، حتى لو لم يعلموا به ولو لم يطلعوا على أحكامه ونصوصه ، ولا يقبل من أحد أن يدعي عدم معرفته بالقانون أو عدم فهمه لأحكامه أو يدعي فهمه بطريقة تخالف الفهم الصحيح للقانون ، وهذا ما يسمى بـ ((عدم جواز الإعتذار بالجهل بالقانون )) .
ويسري هذا المبدأ في حق الناس كافة ولا يعذر احد لجهله بالقانون اياً كانت الظروف المحيطة به، فلا يصح للشخص الإحتجاج بعدم العلم بأحكام القانون لمرضه او لغيابه خارج البلد اثناء صدور القانون او تمام تكوين القاعدة القانونية. كما لا يصح له ان يحتج بعدم علمه لجهله بالقراءة او غير ذلك، حيث أن العلم بالقانونية هي قرينة مفترضة لا تقبل إثبات العكس .
وقد يظن البعض أن هذا المبدأ فيه عدوان أو ظلم لتطبيق القانون دون مراعاة هذا العذر ( الجهل بالقانون ) ولكن في الحقيقة فلأن اعتبارات العدالة تتماشى وتتوازن مع اعتبارات النظام العام بصدد تطبيق مبدأ عدم جواز الاعتذار بالجهل بالقانون، لأنه اذا تعذّر الناس بجهلهم بالقانون فسوف تسود الفوضى في كل مكان لأن الجميع في هذه الحالة سوف يتعذرون بجهلهم بالقانون ويدعون عدم علمهم به ، لهذا فهو يطبق على الجميع ولا يتعارض مع مفهوم العدالة بأي حال من الاحوال.
كما أن هذا المبدأ يحقق المساواة بين جميع الأفراد، فالقانون يطبق على الجميع سواء من علم به أو لم يعلم وذلك لأنه لو أجيز لبعض الأفراد الاعتذار بجهل القانون لكان في هذا إخلال بمبدأ المساواة، لتطبيق القانون على فئة دون أخرى، كما أن العدالة تقتضي ألا يُكافأُ من يجهل القاعدة القانونية ويُغرم من يعرفها.
كما أن تطبيق هذا المبدأ يؤكد عنصر الإلزام الموجود في القاعدة القانونية والذي يكون نابع من القاعدة نفسها وليس شيئا آخر كضرورة إثبات العلم بها أو غير ذلك .
ولكن هل يطبق هذا المبدأ على القانون بالمعنى العام أي على جميع القواعد القانونية أم يقتصر فقط على التشريع دون سواه ،وهل يطبق على جميع فروع القوانين أم على فرع معين من القانون ، وهل يعتبر الغلط في القانون الواجب التطبيق عذرا مقبولا أم لا ، وهل يوجد على هذا المبدأ أي استثناءات ، وماهي تلك الإستثناءات إن وجدت ؟
فبالنسبة لنطاق تطبيق هذا المبدأ فإنه لا جدال في ان المبدأ يطبق على جميع القواعد القانونية ايا كان مصدرها القواعد القانونية سواء أكان التشريع او الدين او العرف او مبادئ الشريعة الاسلامية، كما ان المبدأ يطبق بالنسبة لجميع القواعد سواء كانت هذه القواعد آمرة او كانت قواعد مكملة او مفسرة، ولكن الخلاف ثار حول تطبيقه بالنسبة للقواعد المكملة، فقد رأى البعض انه يصح الاعتذار بجهل هذه القواعد، الذي دفع بهم الى القول بهذا الرأي هو خلطهم بين فكرة الاعتذار بجهل القانون في هذا الصدد وفكرة امكان ابطال العقود نتيجة لما يقع فيه احد المتعاقدين في غلط في القانون، ولهذا اعتقد اصحاب هذا الرأي ان في هذا خروجا على مبدأ (امتناع الاعتذار بجهل القانون) وان هذا الاعتذار يقبل في حالة الغلط في القانون، لكن ينبغي ان نفرق في هذا الصدد بين فكرة الاعتذار بجهل القانون وبين فكرة الغلط في القانون.
ذلك ان فكرة الغلط في القانون تختلف عن فكرة الجهل بحكم القانون لأنه ينبني على الاخذ به استبعاد حكم القانون وطرحه جانبا، فاذا ادعى شخص انه يجهل حكم القانون فان النتيجة التي يريد الوصول اليها هي التخلص من تطبيق حكم القانون بالنسبة له والامر على خلاف ذلك في حالة الغلط في القانون لان المتعاقد اذا وقع في غلط وتمسك به فليس معنى ذلك انه لا يتمسك بالقاعدة القانونية التي وقع فيها الغلط وبالتالي لا يريد تطبيقها بالنسبة له، بل على العكس انه يتمسك بتطبيق القاعدة التي وقع فيها الغلط، كما ان القاعدة تظل سارية في حقه رغم جهله بها، مثل حالة ما اذا باع وارث نصيبه في التركة، معتقدا انه يرث الربع مع ان القانون يقرر ان نصيبه هو النصف في هذه الحالة يعتبر الوارث انه قد وقع في خطأ في القانون يجيز له ابطال البيع ، ومن ثم فإنه اذا تمسك البائع بابطال البيع على اساس الغلط في القانون فإنه يتمسك بتطبيق القاعدة القانونية التي كان يجهلها، ولا يطلب استبعاد حكمها بالنسبة له كما هو الحال بالنسبة لمبدأ الاعتذار بالجهل بالقانون.
وبالنسبة لنطاق تطبيق المبدا فهل ينطبق على كافة فروع القانون أم على فرع معين منه وهو القانون الجزائي .
فلقد استقر القضاء على أن المبدا يطبق على القوانين العقابية وهي التي لا يجوز التعذر بجهلها ، ولكن إذا تعلق العذر بالجهل بالقانون بقانون غير عقابي عذرا مقبولا وقد يمنع العقاب إذا وقعت جريمة نتيجة لذلك ،
والجهل بالقوانين الأخرى غير العقابية كالتقنين المدني يأخذ حكم الجهل بالواقع الذي يؤدي إلى نفي القصد الجنائي ورفع المسؤولية الجنائية عن الفاعل الذي كان يعتقد أنه يأتي فعلاً مشروعا وهذا معناه أن مبدأ عدم جواز الإعتذار بجهل القانون لا يمتد تطبيقه إلى الجهل بالتشريعات غير الجنائية, إذا أن الجهل بهذه التشريعات الأخيرة يصلح عذرا يمنع من العقاب لانتفاء القصد الجنائي لديه ، ورأى البعض أن هذالا يمثل خروجا على مبدأ عدم جواز الاعتذار بجهل القانون, وذلك لأن إعفاء الشخص من المسؤولية الجنائية ليس أساسه الجهل بالقاعدة المدنية بل إنه نتيجة لانتفاء القصد الجنائي عنده, ذلك أن القصد الجنائي لا يتحقق في هذه الحالة إلا بالعلم بحكم قاعدة قانونية غير جنائية .
ومادام المتهم هنا يجهل حكم هذه, فقد انتفى القصد الجنائي عنده, وهو أحد أركان قيام الجريمة, فترفع عنه المسؤولية الجنائية تبعاً لذلك .
وكانت المحكمة الاتحادية العليا تطبيقا لذلك أرست أخيراً مبدأً قانونياً أكدت فيه انتفاء القصد الجنائي للجهل بقاعدة قانونية غير عقابية ، وبرأت متهمين في جريمة تزوير في محرر رسمي، موضحة أن جهلهما لم يكن لعدم علمهما بحكم من أحكام قانون العقوبات الذي لا يعد الجهل به عذراً، وإنما جهل بقاعدة مقررة في قانون آخر، هو قانون الأحوال الشخصية في ما يتعلق بالطلاق وموجبات وقوعه.
وتعود تفاصيل القضية إلى أن طلاقاً وقع بين زوجين، أثبت أمام المحكمة بثلاث طلقات، باعتباره طلاقا بائناً بينونة كبرى، ثم راجعها الزوج بعد أن استفتيا في جواز الرجعة، وبموجب ذلك استصدر تأشيرة دخول للمتهم الثاني، أي مطلقته، الى الدولة بناء على طلب أثبت فيه أنها زوجته، على خلاف الحقيقة، ثم دخلت البلاد، وأقامت فيها على هذا الأساس، فوجهت لهما النيابة العامة تهمة تزوير محرر رسمي، لكن هيئة المحكمة رأت أن فعلهما صاحبه حسن النية، لاعتقاد تولد لديهما أنهما زوجان، بعد أن حصل الطلاق بينهما، واستصدارهما فتوى بجواز الرجعة، ولاسيما أنهما يجهلان الحكم الشرعي بخصوص مسألة الطلاق وموجبات تحققه من عدمه، وتأسس حكم البراءة على جهل المتهمين في ما يتقرر به الطلاق من عدمه بخصوص عدد الطلقات ومكان حصولها وزمن وقوعها، ولم يكن جهلهما لعدم علمهما بحكم من أحكام قانون العقوبات، وإنما جهل بقاعدة مقررة في قانون آخر، هو قانون الأحوال الشخصية، بما ينتفي معه القصد الجنائي عنصراً قانونياً يجب توافره في الجريمة العمدية، وهو ما لم يتحقق في مسلك المتهمين، وقضت ببراءتهما مما أسند إليهما.
وقد استقر قضاء محكمة التمييز بدبي على تطبيق هذا المبدأ أيضا في القانون الجنائي والقوانين الجزائية الأخرى المكملة له حيث قضت بأنه (( لما كانت المادة 42 من قانون العقوبات قد نصت على أنه "لا يعتبر الجهل بأحكام هذا القانون عذراً" مما مفاده أنه لا يقبل الدفع بالجهل بالقانون الجنائي ومثله القوانين الجزائية الأخرى المكملة له كذريعة لتبرير ارتكاب الجريمة أو لنفي القصد الجنائي إذ أنه يفترض علم كافة من يتواجدون على إقليم الدولة بالقانون الجنائي وكان القانون رقم 6 لسنة 1973 المعدل بالقانون الاتحادي رقم 13 لسنة 1996 ، 7 لسنة 2007 في شأن دخول وإقامة الأجانب هو من قبيل القوانين الجزائية المكملة لقانون العقوبات فلا يعتد بالاعتذار بالجهل بأحكامه ومن ثم فإن نعي الطاعن في هذا الخصوص يكون في غير محله. ))
وكذلك قضت بأنه (( إن ما يثيره الطاعن في خصوص انتفاء القصد الجنائي لديه بدعوى الجهل بالواقعة محل التجريم والغلط فيها لا يعدو أن يكون مجرد اعتقاد خاطئ بمشروعية الواقعة وعدم فهمه للقانون وهو في حقيقته دفع بالإعتذار بالجهل بالقانون وهو لا يقبل منه لما هو مقرر من أن الجهل بالقانون أو الغلط في فهم نصوصه لا ينفي القصد الجنائي باعتبار أن العلم بالقانون العقابي وفهمه على وجهه الصحيح أمر مفترض في الناس كافة وإن كان هذا الإفتراض يخالف الواقع في كثير من الأحيان إلا أنه افتراض تمليه الدواعي العملية لحماية مصلحة المجموع وقد جرى قضاء هذه المحكمة على أن العلم بالقانون الجنائي والقوانين العقابية المكملة له مفترض في حق الكافه ومن ثم لا يقبل الدفع بالجهل أو الغلط فيه كذريعة لنفي القصد الجنائي .))
ولكن هل توجد استثناءات على تطبيق هذا القانون ؟
من المقرر أنه يجب نشر التشريع حتى يصبح ملزما للمخاطبين بأحكامه . والمقصود بالنشر هنا الإعلان عن وجود التشريع حتى يأتى العلم به . فالتشريع يصبح نافذا بعد إصداره . ولكنه لا يصبح ملزما إلا بعد نشره في الوسائل المعتمدة لذلك " الجريدة الرسمية " ولكنه يستمدها من نشره ، أي من الواقعة التي تجعل العلم به ممكنا فهناك تلازم حتمي بين الإلتزام بالقانون ، وبين إمكانية العلم به ، ومن هنا إذا ثبت عدم النشر أو عدم وصول الجريدة الرسمية لمكان ما فإنه لا يطبق القانون ويقبل العذر بالجهل به ففي بعض الظروف إذا استحال العلم بالقانون بسبب قــــــوة قاهرة كفيضان أو وقوع حرب أو غير ذلك ، فلا يكون القانون ملزما بالنسبة لمن استحال عليهم العلم به .
والحكمة في تقرير هذا الاستثناء هي ان وصول الجريدة الرسمية يعطي للافراد فرصة للعلم ولهذا كان من الطبيعي ان يسمح لهم بالاعتذار لجهلهم لاحكامه ومن الواضع تبعاً لهذا المبدأ ان الاستثناء لا يطبق الا بالنسبة للقواعد القانونية التي مصدرها التشريع. كما ان هذا الاستثناء مقيد بالظروف التي تدعو اليه فاذا زالت تلك الظروف زال الاستثناء وطبق المبدأ.
كما أن هناك بعض القوانين التي تضع استثناءات مؤقته تتعلق بوقت صدور القانون وقد تتعلق بالأجنبي الذي دخل الدولة حديثا وذلك مثل القانون اللبناني الذي أورد عدة استثناءات على هذا المبدأ ، حيث انه بعد ان اورد المبدأ في المادة 223 من قانون العقوبات مقرراً انه «لا يمكن احد ان يحتج بجهله الشريعة الجزائية او تأويله اياها تأويلاً مغلوطاً فيه».. نص على أنه يعد مانعاً من العقاب:
1ــ الجهل او الغلط على شريعة مدنية او ادارية يتوقف عليها فرض العقوبة.
2ــ الجهل بشريعة جديدة اذا اقترف الجرم في خلال الايام الثلاثة التي تلت نشرها.
3 ــ جهل الأجنبي الذي قدم للبنان منذ ثلاثة ايام على الاكثر بوجود جريمة مخالفة للقوانين الوضعية لا تعاقب عليها شرائع بلاده او شرائع البلاد التي كان مقيما فيها.
وكذلك نص القانون العراقي على قبول عذر الأجنبي الذي قدم إلى الدولة وذلك لمدة سبعة أيام حيث ورد في المادة 2/37من تقنين العقوبات العراقي أنه (( للمحكمة أن تعفو من العقاب الأجنبي الذي ارتكب جريمة خلال سبعة أيام على الأكثر تمضي من تاريخ قدومه إلى العراق إذا ثبت جهله بالقانون وكان قانون محل إقامته لا يعاقب عليها . )
ويشترط لقبول هذا العذر طبقا للنص ألا يكون مضى على الأجنبي من تاريخ الدولة سبعة ايام ويكون الفعل الذي ارتكبه غير معاقب عليه وفقا لتقنين العقوبات في بلده .
ومما سبق بيانه يتضح لنا أن مبدأ عدم جوازالإعتذار بالجهل بالقانون مقرر لصالح العدالة ولصالح القانون وليس كما قد يتخيل البعض ، كما أنه قرينه مفترضة في حق الكافة ولا تقبل إثبات العكس بأي طريق ، وأن الغلط في قانون آخر غير قانون العقوبات أو القوانين المكملة له قد يقبل ويعفي الجاني من العقوبة لانتفاء القصد الجنائي لديه وليس لعدم سريان القانون بحقه .